عندها تُقَلِّبُ أوراق الفحوصات وليتك لم تفعل فتكتشفُ أن الطفلةَ مصابةٌ بمرض اللوكيميا سرطان الدم، هُنا أصعب موقف، هُنا أصعب سؤال ولا حول ولا قوة الا بالله، وبعد أن تُقِر في نفسك بعدم الاعتراضِ على حكمِ الله تبدأ بِكبتِ المشاعر الجياشة واستعمال العقل الضعيف، فترسم على وجهك ابتسامة مزيفة وتتظاهرُ بأنَّك تقرأ النتائج ثم تسألُ عدة أسئلةٍ لتُنسي أمَّ الطفلة سُؤالها الذي وجهتهُ اليك، ثم تلاعبُ الطفلةَ وتُضاحِكها وتقولُ للأم سيأتي الأخصائي ليخبركِ عن حالةِ ابنتك فهو المخول بالتشخيص، فتلقي بهذا الحمل على عاتِقِهِ وتهرب وفي قلبك سهامٌ من الحزنِ والتعاطُفِ مع المريضة .
لا أعلمُ لماذا يكونُ أطفالُ السرطان أكثرَ براءةً من غيرهم وأقرب إلى القلب من سواهم، تَعلقُ صورهم بالذهن وتبقى ذكرياتهم بالبال لا تفارقه، بل حتى أذكرُ نبرةَ صوتِهم ورائحةَ أجسامِهِم.
عندما تدخل إلى غُرفهم ترى وجوههم الباسمةً لما غُمِروا فيه مِن عناية المشفى وحنان الأم وأكياس الحلوى والأشكال المختلفة من الدمى والألعاب متناسين وزخاتِ الإبر وخراطيمً المغذيات.
لا يعلمون بخطورة ما يعانون منه حتى لو أخبرتهم بذلك فيبقون على هذه الحالةِ أياماً، ثم يبدأ شعور الوحدة بالتسلُّل إلى قلوبهم فيُحسون بأنهم محبوسين في سجن، وتبدو عليهم ملامحُ الضجر وعلاماتُ الانزعاج، ثم لا يلبثوا أسابيعاً حتى تَظهرَ عليهم أثارُ المرض وتأثيراتُ العلاج، فيتغيَّرُ لونُ بشرتِهم ويتساقط شعرهم وتَنحَلُ أجسامهم وتَذبلُ عيونهم وتضيق أنفُسُهم بأنفُسِهم، فيكرهون الطبيب المعالج لهم، ويخافون من الممرضين المعتنين بهم، ويصبح زرع البسمة على شفاههم أشبه بزرع الياسمين في الصحراء، لا يَهنَئون بِأكلٍ ولا تَقَرُ لهُم عينٌ بنوم، وللأبوين أضعافُ ذلك العذاب والحزن، فلا أصعب من أن ترى طِفلك يَذوبُ أمامك بِنارِ المرضِ وحر العلاج الكيماوي .
تَمُرُّ أشهرٌ فمِنهُم مَن يُشفى ويعودُ إلى الحياة برحمة الله، ومِنهُم من يموت بتقدير من الله.